فصل: سورة إبراهيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.سورة إبراهيم:

مكية وهي إحدى وخمسون آية إلا آيتين من قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} إلى قوله: {فإن مصيركم إلى النار}.

.تفسير الآية رقم (1):

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}
{الر كِتَابٌ} أي: هذا كتاب {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} يا محمد يعني: القرآن، {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي: لتدعوهم من ظلمات الضلالة إلى نور الإيمان. {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بأمر ربهم.
وقيل: بعلم ربهم.
{إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي: إلى دينه، و{العزيز}، هو الغالب، و{الحميد}: هو المستحق للحمد.

.تفسير الآيات (2- 3):

{اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)}
{اللَّهِ الَّذِي} قرأ أبو جعفر، وابن عامر: {اللهُ} بالرفع على الاستئناف، وخبره فيما بعده. وقرأ الآخرون بالخفض نعتًا للعزيز الحميد. وكان يعقوب إذا وصل خفض.
وقال أبو عمرو: الخفض على التقديم والتأخير، مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد {الَّذِي لَهُ ما فٍي السموات وَمَا فِي الأرضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}.
{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ} يختارون، {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: يمنعون الناس عن قبول دين الله، {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي: يطلبونها زيغا وميلا يريد: يطلبون سبيل الله جائرين عن القصد.
وقيل: الهاء راجعة إلى الدنيا، معناه: يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق، أي: لجهة الحرام. {أُولَئِكَ فِي ضَلال بَعِيدٍ}.

.تفسير الآيات (4- 5):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)}
قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} بلغتهم ليفهموا عنه. فإن قيل: كيف هذا وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى كافة الخلق؟
قيل: بُعِث من العرب بلسانهم، والناس تَبَعٌ لهم، ثم بثَّ الرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله عز وجل ويترجمون لهم بألسنتهم.
{فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي: من الكفر إلى الإيمان بالدعوة، {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة: بنعم الله.
وقال مقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة. يقال: فلان عالم بأيام العرب، أي بوقائعهم، وإنما أراد بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة، فاجتزأ بذكر الأيام عنها لأنها كانت معلومة عندهم.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} والصبار: الكثير الصبر، والشكور: الكثير الشكر، وأراد: لكل مؤمن، لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين.

.تفسير الآيات (6- 7):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)}
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} قال الفراء: العلة الجالبة لهذه الواو أن الله تعالى أخبرهم أن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح، وبالتذبيح، وحيث طرح الواو في {يذبِّحون} و{يقتِّلون} أراد تفسير العذاب الذي كانوا يسومونهم {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} يتركوهن أحياء {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاء مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}.
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} أي: أعلم، يقال: أذَّن وتأذَّن بمعنى واحد، مثل أَوْعَدَ وتَوَعَّدَ، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ} نعمتي فآمنتم وأطعتم {لأزِيدَنَّكُمْ} في النعمة.
وقيل: الشكر: قيد الموجود، وصيد المفقود.
وقيل: لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب.
{وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ} نعمتي فجحدتموها ولم تشكروها، {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.

.تفسير الآيات (8- 9):

{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)}
{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي: غنيٌّ عن خلقه، حميدٌ: محمود في أفعاله، لأنه فيها متفضِّل وعادل.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ} خبر الذين، {مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ} يعني: مَنْ كان بعد قوم نوح وعاد وثمود.
ورُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ثم قال: كذب النسَّابُون.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بين إبراهيم وبين عدنان ثلاثون قرنا لا يعلمهم إلا الله تعالى.
وكان مالك بن أنس يكره أن ينسِبَ الإنسان نفسه أبًا إلى آدم، وكذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم أولئك الآباءَ أحدٌ إلا الله عز وجل.
{جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالدلالات الواضحات، {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} قال ابن مسعود: عضوا على أيديهم غيظا كما قال: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران- 119].
قال ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم.
قال مجاهد وقتادة: كذبوا الرسل وردوا ما جاؤوا به يقال: رددت قول فلان في فيه أي كذبته.
وقال الكلبي: يعني أن الأمم ردُّوا أيديهم في أفواه أنفسهم، أي: وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة إلى الرسل أنِ اسكتوا.
وقال مقاتل: فردوا أيديهم على أفواه الرسل يسكتونهم بذلك.
وقيل: الأيدي بمعنى النِّعم. معناه: ردوا ما لو قبلوا كانت أيادي ونعمًا في أفواههم، أي: بأفواههم، يعني بألسنتهم.
{وَقَالُوا} يعني الأمم للرسل، {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} موجب للريبة موقع للتهمة.

.تفسير الآية رقم (10):

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)}
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} هذا استفهام بمعنى نفي ما اعتقدوه، {فَاطِرِ السمواتِ وَالأرْضِ} خالقهما {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي: ذنوبكم و{من} صلة، {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} إلى حين استيفاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب.
{قَالُوا} للرسل: {إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} في الصورة، ولستم ملائكة وإنما {تُرِيدُونَ} بقولكم، {أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} حجة بينة على صحة دعواكم.

.تفسير الآيات (11- 14):

{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} بالنبوة والحكمة، {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
{وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} وقد عرفنا أن لا نَنَالَ شيئا إلا بقضائه وقدره، {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} بيَّنَ لنا الرشد، وبصَّرنَا طريق النجاة. {وَلَنَصْبِرَنَّ} اللام لام القسم، مجازه: والله لنصبرَن، {عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} يَعْنُون: إلا أن ترجعوا، أو حتى ترجعوا إلى ديننا.
{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}.
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: من بعد هلاكهم.
{ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} أي: قيامه بين يدي كما قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن- 46]، فأضاف قيام العَبدِ إلى نفسه، كما تقول: نَدِمتُ على ضربك، أي: على ضربي إياك، {وَخَافَ وَعِيدِ} أي عقابي.

.تفسير الآيات (15- 16):

{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)}
قوله عز وجل: {وَاسْتَفْتَحُوا} أي: استنصروا. قال ابن عباس ومقاتل: يعني الأمم، وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذِّبْنا، نظيره قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال- 32].
وقال مجاهد وقتادة: واستفتحوا يعني الرسل، وذلك أنهم لما يئسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب كما قال نوح عليه السلام، {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح- 26] وقال موسى عليه السلام: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهَمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس- 88].، الآية.
{وَخَابَ} خسر. وقيل: هلك، {كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} والجبَّار: الذي لا يرى فوقه أحدا. والجبرية: طلب العلو بما لا غاية وراءه. وهذا الوصف لا يكون إلا لله عز وجل.
وقيل: الجبَّار: الذي يجبر الخلق على مرادهِ، والعنيد: المعاند للحق ومجانبه. قاله مجاهد.
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما-: هو المُعْرض عن الحق.
وقال مقاتل: هو المتكبر.
وقال قتادة: العنيدُ الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله.
{مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} أي: أمامه، كقوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف- 76] أي: أمامهم.
قال أبو عبيدة: هو من الأضداد.
وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الأمر من ورائك يريد أنه سيأتيك، وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه.
وقال مقاتل: {من ورائه جهنم} أي: بعده.
{وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} أي: من ماءٍ هو صديد، وهو ما يسيل من أبدان الكفار من القَيْح والدم.
وقال محمد بن كعب: ما يسيل من فُروج الزُّناةِ، يُسْقَاه الكافر.

.تفسير الآية رقم (17):

{يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)}
{يَتَجَرَّعُهُ} أي: يتحسَّاهُ ويشربه، لا بمرةٍ واحدة، بل جرعةً جرعةً، لمرارتِه وحرارته، {ولا يَكَادُ يُسِيغُهُ} و{يكاد}: صلة، أي: لا يسيغه، كقوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور- 40] أي: لم يَرَهَا.
قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: لا يجيزه.
وقيل: معناه يكاد لا يسيغه، ويسيغه فيغلي في جوفه.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن بسر عن أبي أمامة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {ويسقى من ماء صديد يتجرعه}، قال: يقرب إلى فيه فيتكرهه، فإذا أُدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطَّع أمعاءه، حتى يخرج من دُبُره، يقول الله عز وجل: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد- 15]، ويقول: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف- 29].
وقوله عز وجل: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} يعني: يجد هَمَّ الموت وألمه من كل مكان من أعضائه.
قال إبراهيم التيمي: حتى من تحت كل شعرة من جسده.
وقيل: يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته، وعن يمينه وعن شماله.
{وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} فيستريح، قال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة. نظيرها {ثم لا يموت فيها ولا يحيا} [الأعلى- 13].
{وَمِنْ وَرَائِهِ} أمامه، {عَذَابٌ غَلِيظٌ} شديد، وقيل: العذاب الغليظ الخلود في النار.